عصمت عبد الحافظ البصري
عصمت عبد الحافظ البصري
قرّاء برايل هم القادة Braille Readers are Leaders. شعار أطلقه الاتحاد الدولي للمكفوفين The National Federation of the Blind حين أخذ على عاتقه الالتزام بالعمل على دعم انتشار طريقة برايل وتعليم المكفوفين من خلالها.
من يراقب حجم مشاكل المكفوفين ومدى تعثر أوضاعهم في العديد من الدول العربية، يدرك أن الحقوق التي يطالب بها الكفيف في الدول الأجنبية هي أحلام تداعب خيالهم في مناطقنا. ربما لم تشغلهم هذه الأحلام لأنهم يعلمون أنهم لم يُدرجوا يوماً على قائمة الأولويات الحكومية، ولم ينالوا من الخدمات الاجتماعية والحقوق الأساسية الطبيعية إلا ما ندر. هم يعرفون أهمية التنقل باستقلالية، وصعوبة عدم تأهيل وتهيئة المباني والمرافق العامة التي يستخدمها الكفيف، وغياب المناهج المدرسية التي تعلّم طريقة برايل، وتعزّز محو أمية المكفوفين الذين لا يستطيعون قراءة الكتب الورقية المطبوعة.
فقد بصره لكنه أضاء النور للكثيرين
عصمت عبد الحافظ من مواليد عام 1984، كانت طفولته أشبه بالطبيعية في بيئة عائلية داعمة، وكان يرى الضوء قليلاً ويتوقع أن هذا هو الإبصار الطبيعي عند الناس إلى أن فقد بصره كلياً في حزيران 1997 بعدما أنهى المرحلة الابتدائية في مدرسة خاصة للمكفوفين.
في حقبة التسعينات وفترة الحصار الدولي على العراق، كانت الظروف قاسية جدًا على عصمت.
تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة للمكفوفين من العام 1991 إلى العام 1997 ثم كان عليه أن ينتقل في المرحلة الثانوية الى مدرسة أخرى حيث اختلط للمرة الأولى مع الطلاب المبصرين.
” كنت ألاحظ أن المكفوفين متقوقعين على أنفسهم وعلى زملائهم المكفوفين”.
أكمل عصمت دراسته في المرحلة الثانوية عن طريق الحفظ. كان يستعمل الكاسيت ليسّجل المحاضرة ثم يستمع الى التسجيل مراراً وتكراراً حتى يحفظ المادة. رغم المعاناة الكبيرة والدراسة في كتب اعتيادية للمبصرين أنهى عصمت المرحلة الثانوية والتحق بجامعة البصرة كلية الآداب وتخرج منها عام 2009، ليبدأ رحلة البحث عن عمل في بيئة أصلًا فرص العمل فيها محدودة وشبه معدومة لفاقدي البصر.
عُيّن في مدرسة وبدأ عمله كمدرّس، كانت القاعة تتضمن عدداً كبيرا من الطلاب، بمعدّل ما يزيد عن 86 طالباً، وقد حرص عصمت على حسن إدارة الصف. رغم تعيينه في مدرسة عادية للمبصرين، إلا أنه تطوّع في مدرسة المكفوفين التي درس فيها وقدّم للطلاب كل سبل المعرفة.
بدأ مسيرته التعليمية ورفض الاستسلام لفقدان القدرة على الإبصار، واستعان بـ«نور البصيرة» لاستكمال حياته. نظم عدداً من المحاضرات لما لا يقل عن سبعين أو ثمانين طالبا ضمن المحاضرة الواحدة في قاعات الجامعة، ونادى في كل مرة إلى تغيير صورة فاقدي البصر في المجتمع، والى أدبيات التعامل معهم.
“رأيت ان المجتمع بحاجة أن يتعرف على هذه الفئة وأن ينظر لها كفئة قادرة ومتمكنة ولديها رؤية واضحة”
“كنت ُأواجه بالرفض عند كل باب أطرقه. لا زلت أذكر موظفة في وزارة التربية تقول لزميلتها أن هذا الرجل مسكين يعتقد أنه بإمكانه أن يعمل كمدّرس. قلت لها من غير المعقول ان يكون موظف او موظفة بهذا العمر وهذا المنصب ولا علم لديها ان طه حسين عام 1950 أصبح وزيرا في جمهورية مصر العربية، وأنه لم يكن يوماً أسير من يهمشون قدراته، لقد أصاب كثيرًا وحقق نجاحات لم يسبقه إليها أحد من قبله.”
شعر عصمت أن الرفض كان قدره الحتمي، لكنه لم يخضع لذل القوانين التي لم تراع أي ضمانة للأشخاص ذوي الإعاقة. عقد مؤتمراً مع زملائه المكفوفين استضاف فيه ممثلاً عن وزارة التربية الذي قال يومها في كلمته الافتتاحية “أنا أمثل الجهة المقصرة”.
“دعوت زملائي وزميلاتي الذين أمضوا سنوات في التدريس إلى مؤتمر نضغط فيه لقبولنا في وزارة التربية، كنا نحاول أن نخلق فرصة نكرّس فيها وجودنا، ضد التمييز العنصري كنا نناضل من أجل التنوع البشري ومن أجل حق فاقدي البصر في الوجود والتواصل والتعليم والعمل والأجر العادل.”
استمر وزملاؤه في حملات الضغط إلى أن تم تشريع قانون رعاية المكفوفين رقم 38 لعام 2013. لكن الوزارات تأخرت في تطبيقه حتى عام 2019 حيث تم تعيين 20 شخصاً مكفوفاً في وزارة التربية في البصرة وفق القانون أعلاه.
هدية تغيّر مسار حياة وتنير البصرة
تلقى عصمت عام ٢٠١٩ هدية عبارة عن طابعة شخصية من المهندسة المعمارية العراقية فاتن عيسى الصراف بقيمة 4500 دولار أمريكي، لتغيّر من بعدها مسار حياته، بحيث استخدمها لطباعة كتب الدراسة المنهجية في المدارس بطريقة برايل.
“كنت أطبع الكتب بصيغة “وورد” ثم أدخل عليها التعديلات الخاصة بطريقة برايل، وهي الطريقة التي يستخدمها المكفوفون وضعاف البصر للقراءة. كان كل كتاب يأخذ معي حوالي 15 يومًا. كنت أتحسس كل حرف في اتجاهات مختلفة، واعمل على الكيبورد من خلال البرنامج الناطق ثم اقرأ الكتاب بالأحرف ثم استمع إليه مجدداً بالصوت. كان كل كتاب يحتوي على 100 الى 150 صفحة وهذا يعني 200 إلى 300 صفحة على برايل.”
كان هاجسه أن يعدّ للكادر التدريسي والطلاب المكفوفين كتباً بطريقة البرايل كبديل عن الكتب الاعتيادية المعدّة للمبصرين، وقد نجح عصمت في تحويل كل الكتب المنهجية للمرحلة الابتدائية الى طريقة برايل وأصبح بمقدور الطالب أن يقرأها بشكل اعتيادي.
يؤمن عصمت أن هذه اللغة هي حق أساسي من حقوق الإنسان، ويتذكر كيف كان يصطحب معه في الندوات التي كان يعقدها في المدارس والكليات في مديرية البصرة نموذجاً واحداً وهو نموذج من نسخة واحدة لجريدة النهار في بيروت والتي صُممّت بطريقة البرايل.
“استمريت على هذا النهج من 2011 الى 2019 لأني لم أكن أملك غير هذه الجريدة وسيلة للتحدث مع الطلاب عن علم البرايل. كنت اخاف ان ُتتلف هذه النسخة فلو ضاعت مني او تُلفت ماذا سأقول للناس وانا ليس لدي في حوزتي أي كتاب مطبوع على طريقة برايل”.
على مدى سنتين 2019-2020 طبع عصمت 300 كتاباً بطريقة البرايل، والآن بدأ بإعداد الكتب للمرحلة الثانوية للطلاب الذين يدرسون في المدارس الاعتيادية ومن بعدها سينتقل إلى الكتب الثقافية والأدبية المنوعة وقصص الأطفال.
“حُرم من البصر لكنه أضاء قاعات مدرسة المكفوفين.”
يقول عصمت أن وزارة التربية العراقية قصّرت مع شريحة المكفوفين ولم يُطبع كتاب واحد بطريقة برايل وهذا الأمر لم يحصل حتى في أفقر دول العالم. يكاد يكون العراق البلد الوحيد الذي لا يوجد فيه مركز حكومي أو أهلي لطباعة برايل.
إضافة إلى عمله كمدرّس، حققّ عصمت حلمه في العمل في مجال الإعلام. فبدأ بقراءة الاخبار بطريقة برايل ونشر مقاطع صوتية وفيديوهات على حسابه في الفيسبوك؛ حصل من خلالها على وظيفة عمل حيث سيقدّم برنامجاً إذاعياً في البصرة. يستخدم مشاركاته في الاذاعة ويقدم تقريراً صوتياً من إعداده وتسجيله عبر اذاعة العراق الحر وإذاعة لندن بي بي سي من بينها تقارير عن حياة الشاعر بدر شاكر السياب.
“أشعر بسعادة لا توصف عندما أذّيل إسمي في نهاية كل تقرير…… المكفوفين لديهم إبداعات ولديهم طاقات ولديهم مواهب ولكن المجتمع لا يؤمن بهم ….على المجتمع أن يعطيهم فرصة.”
“فرحة الطلاب المكفوفين وأهلهم كانت لا توصف بعد أن حصلوا على المعلومات والمعرفة بطريقة تتناسب معهم. قلت لهم هذا واجبي لم يجبرني أحد على هذا ولكني انا اتيت ووجدت نفسي أعمل متطوعًا في مدرسة المكفوفين… وجدت سعادتي في العمل الإنساني وشعرت بمعنى العطاء.”
بسبب حديثه عن تجربته في المدرسة ومنشوراته على الفيسبوك، حصلت المدرسة التي عمل فيها عصمت على العديد من التبرعات ومكيفات تبريد وشاشات تلفاز من العديد من الأشخاص ومن ضمنهم السيدة التي أهدته الطابعة.
يتمنى عصمت أن تلتزم الحكومة بواجباتها وتنشئ مراكز في العراق لطباعة البرايل، ويأمل من المجتمع أن يعترف بالتغيير الذي حققه المكفوفون، ويوجّه رسالة إلى كل المكفوفين أن يتثقفوا ويتعلموا ليكونوا قادرين على مواجهة الحياة.
من يسمع قصة عصمت البصري يدرك أنه يحمل رسالة إنسانية يؤكد فيها على دوره في النهوض بالمجتمع وعن دفاعه عن حق كل إنسان بالعيش الكريم. تستحق تجربته أن تكون علامة فارقة في صناعة الأمل.