منظمة الفردوس لبناء السلام
منظمة الفردوس لبناء السلام
البصرة، العراق
هنا البصره… هنا الفردوس
ترتبط مدينة البصرة ارتباطاً وثيقاً بمنظمة الفردوس لبناء السلام، المواكبة لما شهدته هذه المدينة من تهميش وإقصاء. وُلدت “الفردوس” عام ٢٠٠٣ من رحم النزاعات السياسية والصراعات الاقتصادية والاجتماعية. تفاصيل متعدّدة تترجم حجم التلكؤ الحكومي في تأمين أدنى الحقوق الأساسية حيث غاب التعليم والرعاية الصحّية والاجتماعية والخدمات الأولية.
بكل إيمان وبالتزام مطلق، وسعي جاد، ومسؤولية، وجهود مكثفة، عملت منظمة الفردوس لإعادة صياغة إرثٍ تاريخي من التهميش وتحويله الى مهمة ايجابية من اجل المستقبل. لم يكن مؤسسو الفردوس، عند تأسيسها، يدركون لغة حقوق الإنسان وإدارة عمل المنظمات، ولكنهم كانوا يعرفون حجم المعاناة الإنسانية في المجتمع البصراوي ويؤمنون بالتغيير.
برنامجهم الأول كان “محو الأمية”.
للمرة الأولى أتمكن فيها من قراءة أسم الطبيب ووصفة الدواء
هناك في شمال البصرة في منطقة الأهوار، تبدو الحياة وكأنها أغلقت أبوابها بوجه نساء دفعن ثمن الحصار الذي بدأ عام ١٩٩٠. نساء حُرمن من حق التعليم، زُوّجن باكراً، عانين أكثر درجات الفقر.
الخطوة “الفردوسية” الأولى كانت تعليم الكبار في القرى الأكثر فقراً سعياً لحياة كريمة دون أمية. كان تعليم الكتابة والقراءة للنساء المتأثرات بالحروب مليئاً بالتحديات، فيه خروج عن التقاليد والعادات، يلاقي معارضة شديدة من شيوخ العشائر ربما لأنه قد يخرج المرأة من قدرها المحتوم الذي رسمه الآباء والأزواج وشيوخ العشيرة.
هل تتعلم هي وافرم أنا البصل؟
هل تتعلم هي وأنا أبقى في البيت؟ |
خاطب مؤسسو الفردوس شيوخ العشائر منطلقين من السياق الديني، بحيث خاضوا معهم حوارات تقنعهم بأن المرأة عندما تتعلّم، “ستعرف كيف تقرأ دعاء” مثلاً. بدأت رحلة محو الأمية، فُتحت عشرات البيوت وتحولّت الى حلقات تعليمية. ثلاثة ايام في الاسبوع ثلاث ساعات يومياً كان البرنامج \الذي تعلمت فيه النساء على مدى ثلاث سنوات متتالية (من العام 2006 حتى العام 2009) دون توقف، فحصلت 3000 فتاة وامرأة تتراوح أعمارهن بين 12 و60 سنة على الشهادة الابتدائية.
عليا كانت امنيتها التعليم، حصلت على الشهادة الابتدائية والمتوسطة والشهادة الاعدادية. اليوم هي ممرضة في معهد تمريض.
سحر فتاة لديها إعاقة جسدية حالت دون خروجها من البيت بسبب عدم قدرتها على المشي. تخرجّت من برنامج محو الأمية وأصبحت معلمة. نجلاء: “للمرة الأولى أتمكن فيها من قراءة اللافتات في الشوارع واسم الطبيب ووصفة الدواء. لقد كان ذلك شعورا رائعا”. |
نساء بدون هوية
480 امرأة متزوجة ولديهن أطفال لكن لا تملك أي منهن الهوية. كان يصعب على هؤلاء النساء واولادهن ان يواجهوا مستقبلهم أو أن يعيشوا في مجتمع لا يعترف بهم ولم يشرّع وضعهم القانوني. تعاونت الفردوس مع مجموعة من المحاميات يذهبن أسبوعيا في مشحوف (قارب خشبي صغير)، يوصلهن إلى أعماق الأهوار. بعد عشرات من الإجراءات القانونية والمتابعة اليومية تمكنت الجمعية من تسجيل ٤٨٠ سيدة في سجلات الأحوال الشخصية ـ التحقت فيما بعد هذه السيدات ايضا ببرنامج محو الأمية وتسجّل اولادهن في المدرسة.
من سنة 2009 الى 2010
خلال مسيرة التعليم اكتشف فريق الفردوس أن العديد من النساء يعانين من وضع صحي مترّدٍ ويفارقن الحياة أثناء الولادة لأن العائلة لا تسمح لهن بالإنجاب داخل المستشفى تجنباً من الانكشاف على الطبيب الرجل. أطلقت الفردوس ايضاً برنامجاً صحياً يتضمن توعية صحية وإنجابية، وكشفاً مبكراً على سرطان الثدي وعيادات متنقلة تقدّم اللقاحات للأطفال الذين يعيشون في مناطق لا تصل إليها هذه الخدمات.
في المناطق الريفية تُجبر النساء على زواج “الشغار” أو “زوجني أختك لأزوجّك أختي”. أدى زواج “الشغار” في بعض الحالات إلى انتحار بعضهن. وبعيداً عن مظاهر الفرح التي تعم مراسم الزواج، تعاني المرأة من حزن شديد لأنها “امرأة فصلية”، أي ضحية زواج الدم، الذي ينص على تزويج إحدى بنات العشيرة المعتدية إلى الشخص المعتدى عليه أو أحد أقاربه بعنوان “الثأر” بموجب التقليد الذي تمليه العادات العشائرية العراقية القديمة لحقن دماء العشائر المتخاصمة. تمكنت الفردوس من توقيع التزام مع عدد من مشايخ العشائر لاستبعاد كل هذه المظاهر.
ورشات عمل
أكثر من مئة ورشة وندوات وجلسات حوارية استهدفت اكثر من 2000 امرأة بأعمار مختلفة تناولت فيها الفردوس قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي وبناء القدرات وتقديم الدعم المعنوي والنفسي والقانوني لتستطيع الفتيات والنساء مواجهة هذه التحديات والتقليل من الانتهاكات.
شهادة حية لأحد النساء الناجيات من العنف؟ او لامرأة حررت من الفصلية؟
بدرية فتاة ريفية تبلغ من العمر 17 عاما تفتحت عيناها على منظومة محكمة من العادات والتقاليد التي تصادر حق الفتاة وتجبرها على خدمة الذكور. في قصة بدرية لم يتوقف الامر عند الحقوق إنما تجاوزها إلى ان تكون هي ذاتها موضع تضحية لذكر، إذ ارتكب اخوها جريمة قتل كان ضحيتها شخصاً من قبيلة اخرى، وحتى يتم انقاذ هذا الاخ من العقاب والقتل على يد اهل الضحية تم الاتفاق بين القبيلتين على ان يتم تقديم مبلغا من المال وإحدى بناتهم “فصلية”. تم اختيار بدرية لتكون هي الفصلية لتتزوج من رجل يكبرها ب 40 سنة. وما ان بلغ الامر الى مسامع منظمة الفردوس حتى بادرت المنظمة بمحاولة جادة الى تخليص الفتاة من هذا المصير المشؤوم وعقدت لقاء مع طرفي النزاع بحضور رجال دين مؤثرين وزعماء عشائر لتحول دون هذا التزويج واستبداله بمبلغ مالي، وبالفعل فقد تم ذلك ونجحت الفردوس في تخليص الفتاة من أن تدفع حياتها ثمنا لجرم ارتكبه اخوها. |
برامج تمكين اقتصادي للنساء الارامل اللواتي فقدن ازواجهن وهن صغيرات دون معيل.
عقدت الفردوس اتفاقيات تعاون مع العديد من المنظمات المانحة لتأمين منح مالية إلى هؤلاء النساء لمكينهن من إنشاء مشاريع صغيرة. فقد استهدفت المنظمة على مدى عشر سنوات بين 2006 و2016 أكثر من 1300 امرأة من خلال تقديم المنح والدعم لإدارة مشاريع صغيرة مدرة للدخل. سعت الجمعية الى تحقيق التماسك المجتمعي بين المجتمع المضيف والنازحين والنازحات خلال الحرب الطائفية عام 2006 و2007 وفي فترة احتلال داعش للمحافظات الوسطى في العراق. تمثل هذا التماسك بأنشطة فنية ورياضية وبرامج التمكين الاقتصادي.
لم تعتبر الفردوس يوماً التحصيل العلمي حاجزاً أمام قدرة النساء، فربطت بين الموهبة وبين القدرة على الإبداع، ووجّهت العديد من النساء من التسوّل في الشوارع التي كنّ يستجدين فيها لقمة العيش إلى الالتزام بحلقات دراسية توعوية يدركن فيها كيف يحفظن كرامتهن الإنسانية وتمكّنهن من خلق فرص عمل صغيرة من خلال إعداد الكبة والمونة والحلوى والمخللات. بادرت الفردوس إلى تنظيم سوق أسبوعي خيري لدعم النازحات يبيعن فيه منتوجاتهن ممّا يقيهن من العوز.
فخرية كانت تنتظر من يقرع باب دارها ليعطيها رغيف خبز تقي فيه أولادها الجوع.
بعد أن تلقيت التدريب مع منظمة الفردوس فتحت كشكاً صفيراً في داري أبيع فيه سجائر وكارت تشريج للتلفون (الرصيد المسبق). يقرع على الناس الشباك ويشترون، خسرت بعض الأموال لأنني لم أكن أعرف كيف أحسبها، ولكني تعلمت، ثم سجلت أولادي في المدرسة وانتقلت الى بيت جديد. منظمة الفردوس صنعت لي حياة. |
“لم يحالفني الحظ لأجرب الحبر الأزرق على إصبعي”
اقترب عام 2009 والانتخابات كانت على الابواب. النساء لا يعرفن معنى أن ينتخبن لأنهن يعشن في بيئة لا تمارس المرأة أي دور في الحياة العامة. سعت منظمة الفردوس لتغيير هذا الواقع من خلال بناء بيئة داعمة للنساء. “عملنا كفريق عمل لنقنع رجال العشيرة كي يفتحوا بيوتهم كمراكز توعية للانتخابات تُمكّن النساء من ممارسة حقهن بالاختيار”. نفذّت الفردوس العشرات من برامج التمكين السياسي ووفرت “باصات” كوسيلة تنقل للنساء كي يتمكنّ من الانتخاب. نقلوا ١٣٥٠ امرأة انتخبن لأول مرة في حياتهن .
تقول شاديا أجمل ما يمكن هو أن يغطي الحبر الأزرق أصبعي، كدليل على أنني انتخبت واخترت من أمنحه صوتي دون إكراه. شعرت أن لرأيي قيمة وأنني أكرّس مسؤوليتي الوطنية. |
خضعت رحاب العبودة المهندسة لعشرات من برامج التمكين السياسي ثم فازت في انتخابات مجلس النواب.
ايفان فائق يعقوب القادمة من الموصل والمتطوعة في فريق الفردوس، خضعت بدورها إلى العديد من دورات التدريب والدعم النفسي والمشاركة السياسية، اليوم هي وزيرة في الحكومة.
نظمت الفردوس عشرات حملات الضغط على الحكومة لتأسيس شبكات مياه صالحة للشرب، لأن حرمان السكان من خدمات المياه والصرف الصحي كان يؤدي إلى مأساة إنسانية. تابعت عشرات النساء وهن يجتزن كل يوم مسافات طويلة على الطرقات الموحلة في الشتاء، وفي حر الصيف لجلب المياه “بالقدور” على رؤوسهن من مسافات بعيدة. نجحت الفردوس في حملات المدافعة في تأسيس شبكة ليصبح الماء في متناول الجميع، وكي لا يُحرم أي إنسان من الحصول على مياه الشرب الصحية بسبب العجز عن دفع تكلفتها.
من ساحة القتال للتطوع للدراسة لشركاء في الحياة
لم يحصل الشباب في البصرة على فرصة لتوظيف ما في داخلهم من قوة بشكل إيجابي. الشباب الصغار وخاصة من عمر 12 إلى 16 سنة، عانوا من غياب المساحات الآمنة، ومن التسرب المدرسي، ومن عدم وجود مراكز تنمي مهاراتهم. عانوا من إهمال كبير جعلهم يوظفون طاقاتهم بشكل سلبي، فتُركوا للاستغلال على أنواعه وسوء المعاملة، وانجرفوا مع العصابات والتنظيمات الإرهابية، واستغلتهم جهات مسلّحة وميليشيات بشكل غير قانوني.
كانت رئيسة الجمعية، “السيدة فاطمة البهادلي” تدرك إن تجنيد الأطفال وإشراكهم في النزاعات المسلحة يترتب عليه آثار سلبية تسلبهم حقهم في الحياة وتنتهك حقوقهم الصحية والتعليمية وتؤثر على كافة جوانب حياتهم. دخلت إلى مراكز التدريب التي استهدفت الشباب، استمعت إليهم وبحثت في الاسباب التي دفعتهم سلوك طريق التطرف.
نادر: تركت المدرسة لان ابي متوفي، وعليّ إعالة عائلتين. في ساحة القتال أضمن راتباً شهرياً لأؤمن الدواء لأمي.
علي: انا مريض كلية انضممت إلى القتال لأختصر طريقة موتي، سأموت في ساحة القتال واضمن لأهلي حقوقاً عينية بعد موتي. |
عملت السيدة فاطمة على اعادة دافع الحياة للشباب.
كانت تستشهد لهم بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تغيّر نظرتهم، اصطحبتهم بملابسهم العسكرية إلى مستشفى الأمراض السرطانية ليشاهدوا بأم أعينهم المرضى الذين يحتاجون إلى متبرعين بالدم ليستمروا بالحياة، “هذا دورنا في الجهاد”. واصطحبتهم إلى المدارس القديمة التي تحتاج إلى الترميم والطلاء بألوان جميلة. نظموا أنفسهم في فرق تطوعية ودهنوا الجدران وكتبوا عبارات تبعث على الحياة. تطوعوا لتنظيف المراكز الصحية التي تغطيها النفايات واستبدلوا مكبات النفايات بحدائق صغيرة. تواصلت رئيسة المنظمة مع مدراء المدارس، البعض منهم كان متعاوناً فيما خاف البعض الآخر، لكنها نجحت في اشراكهم في لجان لبرنامج إعادة الشباب من ساحات الاقتتال.
عاد مئة وخمسون شاباً من ساحات القتال إلى مكانهم الطبيعي داخل الأسرة والمدرسة.
كرّمت الجمعية كأفضل منظمة للجنوب من ممثل الامم المتحدة مارتن كوبلر عام 2001. نالت المديرة التنفيذية للجمعية جائزة المدافعين عن حقوق الإنسان من فرونت لاين ديفندرز لعام ٢٠٢٠، وتم تكريمها من قبل مركز الخليج لحقوق الإنسان.
هنا البصرة، بحلم الفردوس، مدينة للسلام وحقوق الانسان.